...

قصة حياة ... وتاريخ

 النشــــأة

وُلِدَ فِيْ بَلْدَةِ حُّوَارَة – إِرْبِد فِيْ السَادِسِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ نَيْسَانَ – أَبْرِيْلَ مِنَ العَامِ 1947 فِيْ بِيْئَةٍ فَلاحِيَّةٍ لِأَبٍ لَمْ يُكمِلْ تَعْلِيْمَهُ المَدْرَسِيَّ ، إِلَّا أَنَّهُ كانَ مُكِبَّاً عَلىْ القِرَاءَةِ وَحُبِّ الْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَمُجَاهِدَاً فِيْ سَبِيْلِ تَدْرِيْسِ أَبْنَائِهِ وَتَأْمِيْنِ حُصُوْلِهِمْ عَلَى التَحْصِيْلِ الْعِلْمِيِّ الأَعْلَى كَهَدَفٍ أَسْمَى ظَلَّ يَسْعَى وَيَبْذُلَ الجُهُوْدَ المُضْنِيَةَ لِتَحْقِيْقِهِ رُغْمَ شَظَفِ العَيْشِ وَصُعُوبَةِ المَراحِلِ الَّتيْ مَرَّ بِهَا مُجْتَمَعُنَا فِيْ تِلْكِ الحُقَبِ ، فَكانَ وَهُوَ صَاحِبُ الخَطِّ الجَمِيْلِ وَالمَهَارَةِ الفَائِقَةِ بِالْرَسْمِ ، قَدْ عَمِلَ خَطَّاطاً إِلىْ جَانِبِ مِهْنَتِهِ فِيْ الخِيَاطَةِ الَّتيْ مَارَسَهَا وَاشْتُهِرَ بِهَا وَإِلىْ جَانِبِ زِرَاعَةِ الأَرْضِ التيْ وَرِثَهَا عَنْ الجَدِّ الحَاج صَالِح الحَمُّوْدِة رَحِمَهُ الله ، وَكَثِيراً مَا كَانَ الوَالِدُ يَأْتيْ بِلَفَائِفَ كَبِيْرَةً مِنَ القِمَاشِ “المَالْطِي” الأَبْيَضِ فَيَفْرِدُهَا عَلىْ الأَرْضِ ، وَيَأْخُذُ بَعْضَ أَعْوَادِ القَصَبِ التي كانَ يَحْتَفِظُ بِهَا لِيَبْرِيَهَا بِالشَفْرَةِ فَيُشَكِّلُ مِنْهَا رِيَشَاً بِحَوَافَّ ذّاتِ مُيُوْلٍ مُحَدَّدَةٍ ثُمَ يَغْمِسُهَا بِدَوَاةِ الحِبْرِ الصِينيِّ لِيَخُطَّ بِهَا خُطُوْطاً بِدِقَّةٍ وَإِتْقَانٍ يُثِيْرُ الدَهْشَةَ وَالغِبْطَةَ في نُفُوْسِ أَوْلادِهِ المُحِيْطِيْنَ بِهِ بِصَمْتٍ وهُدُوْءٍ ، وَهُمْ يَرْقُبُوْنَ تَشَكُّل الحُرُوْفِ الكَبِيرَةِ المُمْتَدَّةِ عَلَى القِمَاشِ بِانْسِيَابٍ وَسَلاسَةٍ وانتِظامٍ وَجَمَالٍ ، وَبَعْدَ أَنْ يُكْمِلَ تَشْكِيْلَ الأَطْرافَ يَسْمَحُ لَهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِ بِتَعْبِئَةِ المَسَاحَاتِ ، وَأَحْيَاناً يَسْمَحُ لِبَعْضِهِمْ بِالمُسَاهَمَةِ فِيْ خَطِّ الحُرُوْفِ وَرَسْمِ الكَلِمَاتِ مَع شَرْحٍ وَإِرْشَادٍ لِأُسُسِ وَأُصُوْلِ الخَطِّ وَأَنْواعِهِ وَكَيْفِيَّةِ رَفْعِ الرِيْشَةِ وَسَحْبِهَا لِإنْهاءِ أَطْرَافِ باتِّسَاقٍ ونِظامٍ … وَلا بُد أَنَّ تِلكَ المُشَاهَدَاتُ والمُمارسَاتُ والمُشَاركاتُ قَدْ تَرَكتْ أَثَراً ، وَأَسَّسَتْ لِعَائِلَةٍ تَذَوَّقَتْ الفَنَّ وَعَشِقَتْهُ وَمَارَسَتْهُ فَاتَّخّذَهُ البَعْضُ مِهْنَةً وَنَهْجَاً وَتَخَصُّصَاً ، فِيْمَا ظَلَّ عِنْدَ البَعْضِ تَذَوُّقاً وَهِوَايَةٍ انْتَقَلَتْ وَتَرَسَّخَتْ جِيْلاً بَعْدَ جِيْلٍ  …

كِانِتْ أُمُّهُ سَارةَ العَوَضِ الحَامِدِ الغَرَايْبِة رَبَّةَ البَيْتِ الَّتيْ حَمَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا الهُمُوْمَ وَشَارَكَتْهُ كَدَّهُ وَعَرَقَهُ فِيْ مَسِيْرَةِ حَيَاةٍ شَدِيْدَةِ الصُعُوْبَةِ ، كانَتْ مِنْ ذلكَ الطِرَازِ مِنَ الأُمَّهَاتِ اللاتيْ لا يُهِمُّهُنَّ فِيْ الحَيَاةِ غَيْرَ التَفَانِيْ فِيْ العَطَاءِ وَفِيْ الوَفَاءِ …

كَانَ تَرْتِيْبُ هِشَامَ الرَّابِعَ بَيْنَ أُخْوَتِهِ ، يَكْبرُهُ الدُكْتُوْرُ رِياض وَالمُعَلِّمَةُ وَالمُرَبِيَةُ الفَاضِلَة رَضْوَة والمَرْحُوُمُ رُضْوانُ ، وَجَاءَتَ بَعْدَهُ أُخْتُهُ ابْتِسَامُ الَتّي تُوُفِيَتْ صَغِيْرَةً ، وَحَزِنَ عَلَىْ فِرَاقِهَا كَثِيْرَاً ، وَلَمْ يَجِدْ عَزاءَهُ إِلَّا عِنْدَمَا وُلِدَ أخُوْهُ هَاشِمُ (الَّذِيْ أَصْبَحَ طَبِيْبَ أَسْنَانٍ وَصَارَ فِيْمَا بَعْدُ نَقِيْبَاً لِأَطِبَاءِ الأَسْنَانِ) ، فَفَرِحَ لِمَقْدَمِهِ مُعتبراً ذلك تَعْويْضَاً عَنْ أُخْتِهِ الَّتيْ فَقَدَهَا ، ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ (الاسْتَاذُ الجَامِعِيُّ وَالفَنَّانُ) وَمِنَ ثَمَّ صَفْوَانُ الأَخُ الأَصْغَرُ .

أَمْضَىْ هِشَامُ دِرَاسَتَهُ الابْتِدَائِيَّةَ وَالاعْدَادِيَّةَ فِيْ مَدْرَسَةِ حُوَّارَةَ العَرِيْقَةِ الَّتِيْ تَأَسَّسَتْ عَامَ 1922 م وَكَانَ مُتفَوَقاً ، عِصَامِيَّاً ، نَشِيْطاً وَاجْتِمَاعِياً مَحبوباً وَصَدِيْقاً مُقَرَّباً لِكُلٍّ مَنْ عَرَفَهُ وَعَاشَرَهُ … كَانَ سَرِيْعَ البَدِيْهَةِ ، يُجِيْدُ التَعَامُلَ مَعَ الأَحْدَاثِ وَمُسْتَجَدَّاتِهَا وَتَغَيُّرَاتِهَا ، فَكَانَتْ تَحْصَلُ مَعَهُ كَثِيْرٌ مِنَ المُغامَراتِ الطريفةِ التيْ يُحْسِنُ التَصَرُّفَ تِجَاهَهَا دَوْمَاً … فَعِندَمَا بلغَ سنَّ الخامِسَةِ والنِصْفِ مِنْ عُمُرِهِ ، عَرَفَ أَنَّ أَقْرَانَهُ الَّذِيْنَ يَلْعَبُ مَعَهُمْ وَقَدْ بَلَغُوا سِنَّ السَابِعَةِ يَتَحَضَّرُونَ لِدُخُولِ المَدرسةِ ، وكانَ أَصْغَرَهُمْ ، وَسِنُّهُ لا يُؤَهِلُهُ لِدُخُولِ المَدْرَسَةِ ، لكِنَّ صِفَةً كانَتْ تُمَيِّزُهُ ولازَمَتْهُ طُوالَ عُمُرِهِ وَهِيَ الإصْرَارُ وَعَدَمَ الاسْتِسْلامِ والبَحْثِ عَنِ الحُلولِ وَإيْجَادِهَا بِدَأَبٍ وَكَدٍّ وَإصْرارٍ دُونَمَا كَلَلٍ ، وَهكذا فَقَدْ رَافَقَ أَصْحَابَهُ فِيْ أَوَّلِ يَوْمٍ دِراسِيٍّ مِنَ العَامِ الدِراسِيِّ 1953 – 1954 ، فَدَخَلوا إِلى مَكْتبِ مُدِيْرِ المَدْرَسَةِ الَّذِيْ يُدْعَى سَعِيْد جَدْعَان “أبو مِدْحَت” وَكانَ شَخْصَاً ذَا هَيْبَةٍ واحْتِرامٍ وَمَكانَةٍ وتَقْديرٍ في القَرْيةِ ، فَسَأَلَ كَلَّ وَاحِدٍ عَنْ اسْمِهِ وَعُمُرِهِ وَشِهَادَةِ مِيْلادِهِ ، وَعِنْدَمَا جَاءَ دَوْرُهُ وَكانَ الأَخِيرَ بَيْنَهُمْ وكانَ وَاضِحَاً مِنْ مَظْهَرِهِ أَنَّهُ صَغِيْرُ العُمُرِ ، فَسَأَلَهُ أَبُوْ مِدَحَتْ كَمَا سَأَلَ الآخَرِيْنَ فَأَجَابَ بِثِقَةٍ وَجُرأةٍ وَدُوْنَ مُوَارَبَةٍ ، فَقَالَ لَهُ أَبُوْ مِدْحَتْ : هَلْ لَكَ أُخْوَةٌ عِنْدَنَا فِيْ المَدْرَسَةِ ؟ فَأجابَ : نَعَمْ .. أَخِيْ رَضْوَان ، عِنْدَهَا قَالَ لَهُ : سَأَقْبَلُكَ فِيْ الصَّفِّ الأَوَّلِ لِأَنك أَخٌ لِرَضْوَانَ ، وَكانَ رَضْوانُ مِنْ أَبْرَزِ المُتَفَوِّقِيْنَ الذِيْنَ ظَلَّتْ المَدْرَسَةُ تُفْخَرُ بِهِمْ لِتَمَيُّزِهِ وَذَكَائِهِ الذيْ شَهِدَ لَهُ بِهِ الجَمِيْعُ …

 هَكَذا كانَ هشام … وهَكذا بَقِيَ واسْتَمَرَّ فِيْ مُجَابَهَةِ كُلَّ مَا كان يُوَاجِهُهُ مِنْ تَحَدِّيَاتِ الحَيَاةِ بِعَزْمٍ وَثِقَةٍ وَإِصْرَارٍ وَجُرْأَةٍ ، دُوْنَ تَأَخُّرٍ أَوْ تَرَدُّدٍ .

قَضَى هِشَام أَيَّامَ طُفُولَتِهِ حَتَى أَوَاخِرِ الخَمْسِيْنَاتِ فِيْ الأُسْرَةُ التي لا تَزَالُ تَسْكُنُ فِيْ دَارِ الجَدِّ الحَاج صَالِح ، بَيْتِ العَائِلَةِ المَمْتَدَّةِ ، التيْ يَحُدُّهَا مِنَ الجَنُوْبِ دَارُ ضَبْعَانَ وَمِن الشَمَالِ دَارُ إبْرَاهِيْمَ العَلِي وَمِنَ الشَرْقِ المَمَرُّ المُؤَدِّيَ إِلىْ سَاحَةِ الدَارِ الكَبِيْرَةِ وَاللِّيْوَانِ وَمِنَ الغَرْبِ الطَرِيْقُ الرَئِيْسُ المُوْصِلُ إِلىْ هَذا الحَيِّ وَالذيْ يَنْتَهِي عِنْدَ بَوَّابَتِهَا الكَبِيْرَةِ فَيَتَفَرَّعُ جَنُوْبَاً بِاتِّجَاهِ دُوْرِ الصَبَّاحِيْنِ وَالعَبْدَاللاتِ وَشَمَالاً لِيَلْتَفَّ شَرْقَاً مَارَّاً بِدَارِ مُصْطَفَى السَلِيْمِ ثُمَّ دَارِ أَبا غَالِبٍ وَدِارِ ومَضَافَةِ طَبَشَ المُخْتَارَ وَيَصِلُ إِلىْ الجَامِعِ ، ثُمَّ إِلى دُكَّانِ يُوْنُسَ وَدَارِ عَوَضِ الحَامِدِ وَالفَرَّانِ وَحَارَةِ الكَرَاسِنَةِ … الدَالِفُ إِلىْ الدَارِ يَجِدُ أَمَامَهُ سَاحَةً وَاسِعَةً ، عَلَىْ أَطْرَافِهَا إِلىْ اليَمِيْنِ وَاليَسَارِ تَتَوَزَّعُ غُرَفُ الخَدَمَاتِ مِنْ فُرْنٍ وَمَطْبَخٍ وَبَايْكَةِ تَخْزِيْنِ الحُبُوْبِ وَزَرَائِبَ وَرُجْمِ حَجَرٍ لَهُ اسْتَخْدَامَاتُهُ الخَاصَّةُ وَيَقَعُ فِيْ الزَاوِيَةِ الجَنُوْبِيَّةِ الشَرْقِيَّةِ وَوَرَاءَهُ سُوْرٌ يَفْصِلُ السَّاحَةَ عَنْ دَارِ ضَبْعَانَ التيْ يُطِلُّ مِنْهًا شُبَّاكٌ غَرْبِيٌ وَإِلىْ الأَمَامِ يَسَاراً امْتِدَادٌ بِاتِّجَاهِ الشَرْقِ إِلىْ اليَسَارِ كَانَ المَكَانُ الذيْ زُرِعَتْ فِيْهِ لاحِقَاً شَجَرَةُ الكِيْنَا التيْ ظَلَّتْ تُشَكِّلُ مَعْلَمَاً يَرَاهُ الزَائِرُ لِحُوَّارَةَ مِنَ الأَطْرافِ البَعِيْدَةِ كَمَنَارَةٍ تُمَيِّزُ المَكَانَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ ، حَتَّىْ جَاءَتْ جَرَّافَاتُ “التَطْوِيْرِ” الحَضَرِيِّ فِيْ أَوَاخِرِ السَبْعِيْنَاتِ لِتَعِيْثَ فَسَادَاً وَتَهْدِمَ وَتَقْتَلِعَ وَتُغَيِّرَ المَكَانَ وَتُزِيْلَ الدُوْرَ وَمَا كَانَتْ تُظَلِّلُهُ وَتَحْتَوِيْهِ مِنْ تِارِيْخٍ وَذِكْرَيَات … وَكَانَتْ تِلْكَ “الكِيْنَايَةُ” مِنْ ضَحَايَا ذَلِكَ الجَهْلُ المُرَكَّبُ المُبَرْمَجُ المُنَظَّمُ بِنَهْجٍ بَدَأَ وَمَا زَالَ مَاضٍ ، يَهْدُرُ وَيَدُوْرُ وَيُحَطِّمُ بِنَهَمٍ وَعُسْفٍ وَإِصْرَارٍ لِلْنَيْلِ مِنْ كُلِّ مَا فِيْهِ أَصَالَةٌ وَتَعْزِيْزٌ لِانْتِمَاءٍ وَمَاضٍ وَتَارِيْخٍ وَعَرَاقَةٍ فِيْ طُوْلِ البِلادِ وَعَرْضِهَا ، وَلِكُلِّ مَا يُضْفِيْ مِسْحَةً مِنْ جَمَالٍ ، وَكُلِّ مَا لَهُ صِلَةٌ بالإِنْتَاجِ وَبِالأَخَصِّ الزِرَاعَةَ الَّتيْ ظَلَّتْ عَبْرَ العُصُوْرِ مِهْنَةً لِلأَجْدَادِ وَالأَسْلافِ وَمَصْدَرَ خَيْرٍ وَرِزْقٍ ، وَعُنْوَانَ انْتِمَاءٍ وَبِنَاءٍ وَبَقَاء … وَإِلىْ الأَمَامِ كَانَتْ العَرِيْشَةُ التيْ طَالَمَا تَجَمَّلَتْ بِالسَهْرَاتِ اللَّيْلِيَّةِ الصَيْفِيَّةِ بَعْدَ مَوَاسِمِ الحَصَادِ عَلىْ نُوْرِ القَمَرِ حِيْنَ يَكُونُ بَدْرَاً أَوْ ضَوْءِ “اللُّوْكْسْ” المُعَلَّقِ ذِيْ الصَوْتِ الهَادِئِ الرَتِيْبِ المُمْتَزِجِ بِتَرَدُّدَاتِ صَفِيْرِ صَرَاصِيْرِ اللَّيْلِ لِيُكَوِّنَ عَزْفَاً لِمُوْسِيْقَى وَأَلْحَانِ الطَبِيْعَةِ ذَاتِ العَبَقِ الذيْ لا يَنْسَاهُ مَنْ عَاصَرَ تِلْكَ الأَيَّام … وِتِصْطَفُّ غُرَفُ الدَّارِ المَبْنِيَّةِ عَلَىْ شَكْلِ عُقُوْدٍ حَامِلَةٍ لِلْأَسْقُفِ وَجُدْرَانٍ سَمِيْكَةٍ مِنَ الحَجَرِ وَالطِّيْنِ … غَيْرَ أَنَّ الغُرْفَةَ الَّتِيْ أُعِدَّتْ فِيْ أَوَاخِرِ الثَلاثِيْنَاتِ مِنَ القَرْنِ العِشْرِيْنِ لِتَكُوْنَ البَيْتَ الذيْ سَيَتَزَوَّجُ فِيهِ وَالِدُهُ وَوَالِدَتُهُ وَالسَّكَنُ الذيْ سَيَضُمُّ الأُسْرَةَ النَاشِئَةَ قَبْلَ انْتِقَالِهَا إِلىْ المَنْزِلِ الحَجَرِيِّ الجَدِيْدَ الذِيْ بُنَيَ بِطِرَازِ مِعْمَارِيِّ حَدِيْثِ فِيْ النِصْفِ الثَانِيْ مِنْ عَقْدِ الخَمْسِيْنَاتِ ، والذي كانَ أَحَدَ ثَلاثَةِ مَنَازِلَ وَقَعَ عَلَيْهَا الاخْتِيَارُ لِيَتِمَّ اسْتِئْجَارُهَا لِتَكُوْنَ مَقَرَّاً لِأَوَّلِ مُؤّسَّسَةٍ لِلْتَعْلِيْمِ العَالِيْ يَتِمُّ إِنْشَاؤُهَا فِيْ المَمْلَكَةِ بِتَمْوِيْلٍ مِنَ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ وّبِإِشْرافِ المُرَبِّيْ وَالمُفَكِّرِ وَعَالِمِ النَفْسِ والأَدِيْبِ الجَلِيْلِ المَرْحُوْمِ الدُكْتُوْر فَاخِر عَاقِل ، وَذَلِكَ لِحِيْنِ بِنَاءِ المَقَرِّ الدَائِمِ لِمَعْهَدِ المُعَلِّمِيْن “الرِّيْفِيَّـــــــــــــة” … تَمَيَّزَتْ تِلْكَ الغُرْفَةُ بِكَوْنِهَا أَوَّلَ بِنَاءٍ تُسْتَخْدَمُ فِيْهِ الخَرَسَانَةُ فِيْ المَنْطِقَةِ ، فَكَانَ لِسَقْفِهَا الاسْمِنْتِيِّ مِيْزَةٌ فِيْ اسْتِقبالِ مِياهِ المَطَرِ وَتَصْرِيفِهِ عَبْرَ مِزْرابٍ وتَجْمِيْعِهِ نَظِيْفَاً خَالياً مِنَ الشَوائِبِ التي طَالَمَا كانَتْ تُعَكِّرُ مِيَاهَ الآبَارِ وَالبِرَكِ فِيْ تِلكَ الفَتْرَةِ ، فَكَانَ الجِيرانُ يَحْضُرُونَ لِأَخْذِ شَيءٍ مِنْ ذلكَ المَاءِ الصَالِحِ للشُرْبِ وَتَحْضِيْرِ الشَايِ ، كَمَا كانَتْ العَرَائِسُ في ذلكَ الوَقْتِ تَشْتَرِطُ عَلىْ العِرْسَانَ أَنْ تَكُوْنَ الحَفْلَةُ وَ”الصَمْدَةُ” في بَيْتِ أَبِيْ رِياض الذيْ كانَتْ تَزْدَانُ جُدْرانُهُ بِرُسُومَاتٍ وَزَخَارِفَ جَمِيْلَةٍ رَسَمَهَا أَبو رياض بِيَدِهِ .. يد الفنان إِذْ كَانَ فَنَاناً ذَا مَوْهِبَةٍ لا تُضَاهَى …

كَانَ هُنَالِكَ حَادِثَةٌ طَرِيْفَةٌ كانَتْ تَرْوِيْهَا وَالِدَتُهُ ، ففي إحدى السنوات وفي يوم إعلان النتائج بعد انتهاء العام الدراسي في سنة 1956 أو 1957 ، عاد هشام إلى البيت مسرعاً وبيده شهادته بيده .. وخارج السور الطيني العالي كانت الجدة فاطمة رحمها الله تجلس على المقعد الحجري الطويل (الحنت) الواقع إلى الجهة الجنوبية من بوابة الدار الكبيرة ، منتظرة وصول هشام للاطمئنان على نتيجته ، وما أن لمحت محياه حتى نهضت لملاقاته سائلة إياه بقلق عن النتيجة : هل أنت ناجح يا جديدتي ؟ فأجابها : طبعاً ناجح ! لكنها ظلت قلقة وأرادت أن تتأكد ، فأخذت منه الشهادة وذهبت بها إلى بيت أخيها رشيد المحمود (أبو غالب) رحمه الله ، طالبة منه أن يقرأ لها النتيجة ويبلغها إن كان ناجحاً حقاً وأنه غير مكمل … فلما قرأها قال : إنه ناجح ، بل هو متفوق ، فلماذا أنت قلقة هكذا ؟ قالت : أخاف عليه إن لم يحصل على نتيجة ترضي ولدي مصطفى أن يغضب ويعنفه . إذ كان هشام دائم الحركة واللعب ، قليل الدراسة ، يحل واجباته سريعاً ويخرج للعب لكنه كان يحقق نتائج عالية رغم ذلك ، وكانت لديه حلول ومداخل خاصة به وغير معتادة ، فعندما درس جدول الضرب المقرر في مادة الرياضيات ، كان الطلاب يحفظون جدول الضرب على أنه أنشودة أو نص يتلى ، لكن هشام كان يستنبط لنفسه طريقة تساعده على إيجاد الحلول دون حاجة لحفظ ، ومرة عرض على مدرس الحساب طريقته في استنباط جدول الضرب للرقم خمسة فكان يضع صفراً أمام الرقم المضروب بخمسة (أي أنه يضربه بالرقم 10) ثم يقسم الناتج على إثنين ليحصل على الجواب ببساطة وسرعة ، وعندما عرض الفكرة على أستاذه ، أعجب كثيراً بالطريقة قائلاً : الفكرة تبدو بسيطة ومنطقية ، لكنها لم تخطر على بال أحد من قبل على حد علمي . كانت مادة الرياضيات محببة عنده ، وقد يكون بعض الفضل في ذلك عائداً لما كان يرقبه من ميزات وتحديات لخاله المرحوم ناجي العوض (أبو سلطان) الذي كان مزارعاً وتاجراً للحبوب ، وكان أمياً لكنه كان سريعاً في الحساب لدرجة أنه كان دائما يسبق المتعلمين في حل المسائل الحسابية بسرعة مذهلة ، وكذلك كانت والدته الأمية أيضاً تمتلك موهبة في سرعة حل المسائل الحسابية التي تعرض عليها . ومن المواقف المشابهة التي حصلت معه حين كان يدرس في الجامعة ، كان حين طرح أحد الأساتذة على الطلبة سؤالاً عن رأيهم بأهم الاكتشافات العلمية في التاريخ ، فأدلى كل واحد برأيه ، فمنهم من قال “العجلة” ، ومنهم من قال “الكهرباء” لكن الجواب الذي أعطاه هشام وهو “الاحتكاك” ، استوقف الأستاذ وأعجب به معتبراً إياه أفضل الأجوبة .

كان هشام يمتاز بالحركة الدائبة ، وكان يخرج مع رفاقه كثيرا للصيد ، وكانت سهول حوارة الشرقية كثيرة الطيور ومنها الزرعي والدُرَج والدويري ، فكانوا ينصبون الفخاخ بين الأعشاب وبها الطُعْمُ وينتشرون بعيداً عنها ثم يَحُوْفُوْنَ الطُيورَ باتجاه الفِخَاخِ ليقع بعضها أسيراً ، فيجمعوا صيدهم ويعودوا به لتحضر لهم أمهاتهم وجبة من لحم طير مقلي يتقاسمونها مع أخوتهم بسعادة وانشراح ، في زَمَنٍ كانَ أَكْلُ اللَّحْمِ فِيْهَ غَيْرَ مُتَاحٍ ، إلا مَا عَزَّ وَنَدَر .

كان حينما يعود إلى البيت في المساء يبحث عن أخيه الأصغر الذي يكون بانتظاره فيلاعبه ويداعبه ، ثم يحمله على كتفيه ويخرج معه في مشوار مسائي ذي نكهة ما غابت عن نفسيهما يوما وما خبت . وما كان للمشوار أن ينتهي دون أن يطالب الصغير أخاه أن يغني له أغنية عبد الحليم “ألي حاجة” ، ثم يعيدها مرات ومرات ، حتى يعود به نائماً فيسلمه لوالدته التي تضعه في فراشه ..

مرحلة الشـــباب

أنهى هشام دراسته الإعدادية في حوارة والتحق بمدرسة إربد الثانوية الواقعة فوق تل إربد ولا زالت ، حيث كانت المدرسة الثانوية الوحيدة للفرع العلمي وقتها . أتم دراسته الثانوية في العام 1965 م ، لكنه لم يتمكن من الالتحاق بالجامعة لأن الدخل المادي لوالده لم يمكنه من تأمين أقساط جامعية ومصاريف إضافية سيما وأن أخويه الأكبر منه لا زالا يدرسان في الجامعة ، وكان والده ينتظر تخرج الابن الأكبر ليعود مهندساً ويساعده في إكمال دراسة أخوته الأصغر ، ذلك كان الأمل والمسعى والمخطط ، فالوالد الذي حرم من إكمال دراسته المدرسية رغم أنه كان الأول على صفه ظل هاجسه وتحديه الأكبر يتركز في تأمين الدراسة لأبنائه جميعاً . فكان على هشام أن ينتظر ويبحث عن عمل لحين توفر الإمكانيات والظروف التي تسمح له بالالتحاق بالجامعة .

في تلك الفترة كانت البلاد تمر بظروف سياسية انعكست على الوعي والواقع الاجتماعي والاقتصادي للناس فقد كانت حقبة الستينات بصعود المد القومي في مصر وسوريا والعراق ، وكان الشارع مشحونا بالعواطف الجياشة والحماسة لاسترداد ما اغتصب من أرض فلسطين عام 1948 ، وكان طموح كل شاب أن يكون مقاتلاً أو ضابطاً . وقع نظر هشام ونفر من أصحابه على إعلان في صحيفة الدفاع اليومية التي كانت مصدراً أساسياً للمعلومة والخبر إلى جانب الإذاعة يحرص على قراءتها الجميع ، كان ذلك الإعلان ينص على فتح باب الانتساب لسلاح الجو الملكي الأردني مشترطاً على المتقدمين أن يكونوا من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة بتقدير جيد وإتقان اللغة الإنجليزية والنجاح في المقابلة التي تتضمن عدداً من الشروط والاختبارات الصحية والشخصية ، فقرر هشام مع مجموعة من أقرانه أن يتقدموا بطلبات انتسابهم دون أن يخبروا أحداً ، وتحدد موعد المقابلة ، وظهرت النتيجة وكان هشام ضمن عدد محدود ممن تم قبولهم بعد اجتيازهم الشروط المطلوبة . عاد يومها إلى البيت وهو يطير من الفرح منتظراً عودة الوالد من عمله في المساء ليخبره بالنبأ بعد أن أخبر أخوته الحاضرين الذين شاركوه الفرحة والأمل ، ووالدته التي لها حساباتها وتحفظاتها الخاصة وتخوفاتها من أخطار تلك المهنة دون أن تعلن عن موقفها قبل الاستماع لموقف الأب وقراره . عند غياب الشمس كان هشام يقف عند حافة الفرندة وهو يرصد والده القادم من جهة (الكسحة – تقاطع طرق إربد الرمثا مع طريق الصريح الذي يبعد مسافة 600 م إلى الغرب حيث موقف تحميل وتنزيل الركاب لباص أبو شنب الوحيد العامل على خط إربد حوارة) .. وما أن وصل الوالد ودخل ، حتى بادره هشام بالخبر قائلاً : “يابه .. قل لي مبروك .. أنا قبلت في دورة المرشحين للطيارين الحربيين ونجحت وأعطوني هذا النموذج لتوقيع ولي الأمر بالموافقة” .. نظر الأب إلى ابنه قائلاً : ” ومن قال لك أني موافق ؟” .. دهش هشام ودهش الجميع من الجواب ، إلا الأم التي ظهر عليها الارتياح مما كانت تخشى وقوعه .. بان الانفعال على وجه هشام ، ولم يكن يصدق ما سمع ، فقال : يا أبي لقد تم اختياري من بين عدد من المتقدمين ، وهذه الفرصة يحلم بها الجميع ، فما الذي يجعلك ترفض ؟! هذا فرصة لا تعوض . أجابه الوالد باختصار قائلاً : إذا سلكت هذا الطريق فأمامك احتمالان ، إما أن تكون فاشلاً وهذا يعني أن لا داعي للمضي في هذا الطريق ، وإما أن تكون ناجحاً متميزاً ، وفي الحالة الأولى فإن خوفي عليك سيكون أكبر ، لأن النجاح يعود على صاحبه بالمآسي ، ثم سرد له تجاربه ومشاهداته من الأحداث التي تؤكد رؤيته تلك . وهكذا حسم الأمر ولم يبقَ من مجال للاعتراض . 

 وبدأ هشام رحلته بالبحث عن عمل ، ولم يكن ذلك بالأمر السهل ، فوجد عملا بوظيفة متواضعة في شركة المقاولين العرب التي كانت تقوم ببناء سد المقارن في أقصى شمال غرب الأردن قرب الحمة عند الحدود بين الأردن وسوريا وفلسطين ، وكان من بين المهندسين المسؤولين كل من نشأت الأسمر وهاشم فرسخ والذين امتدت علاقات الصداقة المتينة معهم حتى وفاتهم . كان هشام محباً للعمل ومكباً عليه بنشاط وتفاعل وحيوية مما لفت انتباه المسؤولين ، فوجدوا أنفسهم أمام شخص لديه كفاءة وقدرات تؤهله لتبوأ مهام أكثر وأكبر فدعموه وحفزوه وعرضوا عليه أن يعمل بوظيفة مراقب ، وكان ذلك وسريعاً ما أثبت جدارته وتحسن راتبه المتواضع قليلاً .. كان يتقاضى في البداية 12 دينارا شهريا ثم زاد راتبه إلى 14 – 15 ديناراً ، فكان في نهاية الشهر يأتي به إلى والدته ويسلمها إياه كاملاً ثم يأخذ منها مصروفه اليومي الذي لم يتجاوز بضعة قروش بالكاد تكفي أجرة للطريق أو ما يزيد قليلاً عن ذلك ، لكن كان في تلك الدنانير مع ما كانت تحصله أخته رضوة التي كانت قد التحقت بسلك التعليم وأصبحت مدرسة في قرية كفر عوان ثم في عبين وكانت تتقاضى راتباً لا يزيد كثيرا عما يتقاضاه أخوها ، كان فيها من البركة ما مكن من توسيع المنزل الذي كان مكوناً من غرفتين وصالة ومطبخ وفرندة وحمام خارجي فتم بناء التوسعة بمضاعفة مساحة الصالة وإضافة غرفة ثالثة .

في تلك الأثناء كانت قد فرض التجنيد الإجباري ، وكان على كل من بلغ الثامنة عشرة من عمره دون أن يكون مسجلا للدراسة الجامعية الالتحاق بالسلك العسكري كمكلف لمدة سنتين ، لذا فقد قام بالتسجيل بجامعة بيروت العربية بنظام الانتساب بتخصص سياسة واقتصاد حتى يتمكن من الاستمرار في العمل ومساعدة أهله في تلك الظروف العسيرة .

وبعد تخرج أخيه الأكبر رياض وعودته بعد غياب طال ست سنوات باتت تلوح في الأفق بوادر الانفراج ، ففي شهر تموز – يوليو من العام 1967 كان الموعد ، وسافر هشام مع أخته رضوة والخال راجي العوض (أبو محمود) إلى الشام للاتقاء بالخال إبراهيم المقيم هناك ومن ثم الذهاب إلى بيروت لاستقبال رياض الذي أنهى دراسته بتخصص الهندسة الجيولوجية من جامعة موسكو بالاتحاد السوفييتي بصحبة الصديق وابن العم رضوان الخليل الذي أنهى دراسة الطب من أوديسا بالاتحاد السوفييتي أيضاً والقادمين بالباخرة بحراً من ميناء أوديسا على البحر الأسود إلى ميناء بيروت بلبنان . وتجهز الجميع ومعهم راضي الخليل الذي حضر أيضاً لاستقبال شقيقه ، تجهزوا للسفر من دمشق إلى بيروت لكن لم يسمح لهم بعبور نقطة حدود المصنع بين سوريا ولبنان وكان عليهم العودة لأسباب ما ، غير أن هشام كدأبه في مثل هذه الحالات تمكن من العبور ، وأتم سفره إلى بيروت ، فيما عاد الآخرون إلى الشام منتظرين عودة هشام بصحبة القادمين . في الموعد المحدد كان هشام يقف بين الأعداد الغفيرة على رصيف الميناء والسفينة الروسية تقترب شيئا فشيئا من البر .. وهنا برزت معضلة ، فعندما سافر رياض للدراسة كان هشام صبياً صغيرا ، وكانت الصور المتبادلة نادرة ، ولا شك أن رياض قد تغير كثيراً أيضا بعد هذا الغياب الطويل .. كان المسافرون القادمون يقفون مصطفين على طول على الحاجز على ظهر السفينة ، كل يحاول أن يعثر على ذويه بين المنتظرين في هذا الحشد على الرصيف المقابل .. التفت رضوان الخليل وصاح : رياض .. أنظر ، أليس ذاك الشاب هو أخاك ، لا بد أن يكون أحد أخوتك .. نظر رياض متفحصاً فنادى كل منهم الآخر … رياض … هشام …

في الرمثا عند نقطة الحدود الأردنية السورية كان جمهور غفير من أهالي حوارة قد حضر للاستقبال .. ها هما الغائبان يعودان .. رياض المصطفى ورضوان الخليل .. كانت مسألة عودتهما مدار جدل ورهان لدى الكثيرين على مدار سنين ، وها هما قد وصلا .. وكان يوماً مشهوداً قليلا ما تكرر مثله ..

ظلت الصعوبات قائمة رغم تمكن رياض من الحصول على وظيفة في سلطة المصادر الطبيعية براتب كبير ، لكنه كان قد تزوج وأصبح لديه التزامات ومصاريف لم تكن مأخوذة بالاعتبار أو محسوبة في المخطط الذي رسمه الوالد .. وفي العام 1969 تخرج هاشم من المدرسة ، فجلس الوالد مع ابنه الأكبر محدثاً إياه .. الآن جاء دورك بحمل جزء من المسؤولية بتدريس أخوتك فهذا الهدف لا محيد عنه .. وتم الاتفاق على أن يقوم رياض بتحمل مسؤولية دراسة هشام ، فيما يقوم الوالد بتحمل مسؤولية دراسة هاشم ، وهذا ما كان .

الدراسة والعمل في الخارج

 سافر هشام إلى يوغوسلافيا والتحق بجامعة بلغراد ، أكمل فيها سنة واحدة ، في تلك السنة كان رياض قد سافر ببعثة إلى تشيكوسلوفاكيا وهناك دعا هشام للحضور إلى براغ حيث قام بالتسجيل في جامعة براغ وبدأ بالدراسة فيها بتخصص الهندسة المدنية .. تعرف إلى فتاة تشيكية وأحبها وتزوج بها .. كان يحضر في بعض إجازاته الصيفية إلى الأردن ، وكان يحرص دوماً على جلب أجمل الهدايا لابن أخته خلدون الذي احتضنه الجد والجدة بعد فقدان والده عام 1971 في أواخر حرب أيلول ، والذي ظل وفياً لخاله قريباً منه في آخر أيام حياته إلى جانب أولاده وزوجته كواحد منهم ..

في صيف العام 1973 وأثناء تجوله في سوق البخارية بإربد اشترى بعض الهدايا والإكسسوارات البسيطة ليأخذها معه لبعض أصدقائه ، وكان من بينها خواتم فضية اللون معتقة باللون الأسود كان مكتوباً عليها بالإنجليزية JERUSALEM .. كانت تلك هي خواتم العرس التي لبسها مع زوجته .. وفي العام 1974 رزق في براغ بمولوده الأول داود .

في صيف العام 1975 عاد إلى الأردن بعد تخرجه وكان قد عزم على السفر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للعمل ، وهناك استقبله بعض الأصدقاء وساعدوه في إيجاد عمل في إمارة الفجيرة ، وبعدها أرسل إلى زوجته وابنه الصغير ليسافروا إلى الأردن ويتعرفوا على الأهل حيث أمضوا بعض الوقت في بيت الأهل ، كانت مدة قصيرة لكنها كانت جميلة وتركت أثراً طيباً .. لم تكن سونيا تجيد العربية لكنها كانت مرحة وإيجابية ومتفاعلة مع الأهل الذين أحبوها وأحبتهم ، وظلت لها مكانة خاصة عند الوالد والوالدة ، وبالنسبة لها هي أيضاً كانا بمثابة الأب والأم وكانت لهم بمقام الأبنة القريبة ، وبعد مرور الأيام والسنين وفي أواخر حياة الأم (أم رياض) ظلت أم داود بجوارها طوال مدة مرضها تتناوب على خدمتها مع ابنتها رضوة (أم خلدون) …

في الخليج أمضى هشام مدة ثمان سنوات قضاها في إمارة الفجيرة فبدأ عمله بوظيفة مهندس مدني في شركة الساحل الشرقي للمقاولات براتب ثلاثة آلاف درهم بالاضافة إلى عمولة بنسبة 5% من الأرباح ، كما جاء في رسالته الأولى التي كتبها لوالده بعد فترة من وصوله ، وكان ذلك المبلغ وقتها ذا قيمة عالية ، واستمر بعمله في نفس الشركة وأصبح المدير العام للشركة . ومع نشاطه وحيويته المعهودة فقد أصبح له علاقات وصداقات مع المجتمع المحلي ومع كافة المسؤولين ، وكان له حضور مميز ومحبة في قلوب الجميع ، وظلت تلك العلاقات قائمة وقوية ونشطة مع الجميع . في العام 1978 رزق بمولوده الثاني سند ، الذي لم يناسبه الجو الرطب فظهر لديه الربو وكان ذلك سبباً رئيساً دعاه للتفكير بالعودة إلى الأردن ومتابعة عمله بإنشاء شركته الخاصة ، وقرر بالتشاور مع أخيه هاشم أن يبني بيتاً في حوارة وبدأ بذلك في العام 1980 وصار جاهزا في العام 1982 حيث كان يتابع عمل المقاول والاستشاري المشرف أخوه ووالده .

العودة إلى الأردن

وعاد مع عائلته إلى الأردن في العام 1983 ، وبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياته الغنية بالعطاء والبذل والتفاعل والاهتمام . أنشأ شركة الشمس للهندسة والمقاولات في عمان ، وقد نفذت الشركة العديد من المشاريع في عمان وخارجها ، وكان يسافر من حوارة إلى عمان يوميا ، دون أن يستمع لنصائح الكثيرين بالانتقال للسكن في عمان ، وفضل البقاء في حوارة التي أحبها وأحب أهلها وأحبوه . وفي العام 1986 رزق بمولوده الثالث عمر .

كان اهتمامه وحبه للزراعة منبعاً للراحة والسرور ، فتجده يقضي الأوقات في الحديقة يزرع وينكش ويعشب ويأخذ بيد الصغار من أبناء وأبناء أخوة وأقارب وبالأحفاد فيما بعد ومشاركتهم بقطف الفاكهة وتقديمها لهم .

كانت علاقته بالصغار لا تقل وزنا ومكانة وبذلا للاهتمام عنها مع الكبار ، فنال حبهم وسر بالسعادة التي كان يرسمها ابتسامات على وجوههم وبالحكايات التي يحلق معهم فيها في الخيال وفي الواقع .. وكان وجود أحفاده سيف وبترا وكلارا وهشام الصغير من حوله بمثابة الأمل الذي يمده بالقوة على مقاومة المرض ويبعث فيه السعادة والارتياح ، فكانت سعادته تزداد عندما يتواجد حوله أبناؤه وأحفاده وكناته اللاتي كُنَّ كَبَنَاتٍ لهُ ، يُبادِلهُنَّ الوِدَّ وَالحُبَّ الشَدِيْدِ .

في ميدان السياسة:

كان للحقبة التي تزامنت مع تشكل وعيه في ريعان شبابه أثر في النهج الذي اختطه لنفسه ، ففي أواسط الستينات كان الجو العام السائد في الأردن والمنطقة العربية عموما يعج بمتغيرات ونشاط سياسي وحزبي كثيف ، وكانت النكبة التي حلت بفلسطين قد تركت بصمتها على تلك التحولات ، وكانت الصدمة من ضياع الجزء الأكبر من فلسطين قد ولدت رفضا عند الشعوب لما هو قائم من سياسات وأنظمة ، فكانت ردة الفعل بتشكل أحزاب ذات توجهات راديكالية معارضة لما هو قائم ، وكان الشارع العربي ثائرا منذ الخمسينات ، وحدثت ارتدادات  وهزات تمثلت في حصول انقلابات وثورات ، فكانت الخارطة السياسية قد تشكلت باتجاهات أساسية معارضة ثلاث ذات بعد قومي واشتراكي وديني ، في مقابل الاتجاه الذي يدعو للتعامل مع الدول المهيمنة على السياسة العالمية والقرارات الدولية . من رحم تلك الحالة ظهر توجه جديد يدعو إلى النضال من أجل تحرير فلسطين بالقوة ، فكان قيام العمل الفدائي بمثابة رد الفعل على حالة الهوان التي سادت الأمة وكان تياراً جارف احتوى كل الفئات الشابة المتحمسة للفعل ، فظهرت حركة التحرر الوطني الفلسطيني فتح أولا ثم شكل المنتمون إلى حركة القوميين العرب تنظيما فدائياً أسموه الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين ، وقد انشق عنها ما سمي بالجبهة الشعبية – القيادة العامة ثم انقسمت فيما بعد إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وحصلت انقسامات وانشقاقات أخرى في كل منهما ، كما شكل حزب البعث العربي الاشتراكي – جناح العراق جبهة التحرير العربية فيما شكل الجناح السوري جبهة الصاعقة وتشكلت تنظيمات وجبهات جديدة ، لكن فتح ظلت تحتفظ بالجسم الأكبر والأكثر تأثيراً .. ومنذ نشأة فتح التحق هشام بها وأصبح عضوا نشطا وممارسا فيها ، وكان تواجده وعمله في منطقة الأغوار جزء من ذلك النشاط ، وبعد انتقاله إلى يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا استمر ذلك النشاط ونما ، وكانت تربطه علاقات وصلات مع ياسر عرفات والقيادات العليا في فتح ومنظمة التحرير الذين كانت ثقتهم به كبيرة ، فكان ياسر عرفات يصحبه في اللقاءات التي كان يجريها مع القيادات في تشيكوسلوفاكيا ، وظل نشاطه في إطار فتح مستمراً بشكله السياسي والتنظيمي . مما يذكر أنه كان يحتفظ بهدية من أبي عمار وهي جاكيت جلدي أسود ، أهداه فيما بعد لأخيه الأصغر عند سفره إلى موسكو للدراسة في عام 1977 . وبالعودة إلى حقبة الستينات فقد كان النشاط السياسي في قمته ، فكان الجميع منخرطا بدرجة أو أخرى وكنت تجد في البيت الواحد انتماءات لتنظيمات وجهات وأحزاب مختلفة ، وكانت الحوارات والنقاشات تأخذ مناحي مختلفة وتؤدي إلى اختلافات وخلافات .. كان لهشام طريقته بالنقاش والتحدي والانتصار وكثيرا ما كان يصطحب أخاه الصغير معه ويعلمه مبادئ السياسة فككان يتحدى به معارضيه حين يتبارزون في السياسة فكان يحرجهم حين يسألهم أسئلة يعجزون عنها فيسأل أخاه الطفل ليجيب عن تلك الأسئلة ، فكان يحفظ أسماء كل رؤساء الدول ووزراء خارجيها وأسماء العواصم ورسم خارطة العالم بتفاصيلها وهو في سن السابعة . كان النقاش يحتد مع أبناء أخواله وأخواله الذين كانوا ينتمون إلى تيارات بعثية ، وجبهة شعبية ، وديموقراطية ، وصاعقة …

عند انتهاء مرحلة الدراسة الجامعية اختار هشام الذهاب للعمل في الخليج ، وكان ذلك في إطار توجه تنظيمي ، ومع استمرار ذلك النشاط ، إلا أنه كان يقتصر على أطر محددة لا تتجاوز التأثير باتجاه سياسة أو توجهات البلد الذي كان يقيم فيه ، وكانت له علاقات طيبة واحترام متبادل مع الجميع . وخلال أسفاره كانت تحصل معه بعض المفارقات ، ففي إحدى رحلاته ، حين كان قادماً من براغ وصل مطار دمشق لأن شركة الطيران التشيكية لم يكن لها خط مباشر إلى مطار عمان ، فاستوقفه الأمن في المطار وطلبه للتحقيق الذي كان يتمحور بالسؤال عن أصله إن كان أردنياً أم فلسطينياً ، فكان رده بأن استهزأ بالمحقق قائلاً : لن أجيبك على سؤالك ، إلا إذا أنزلت الشعار الموضوع في أعلى مبنى المطار ، والذي كتب فيه ” أمة عربية واحدة .. ذات رسالة خالدة ” ، فإذا كنت تؤمن بشعار دولتك فسيكون من العيب أن تطرح مثل هذا السؤال … فما كان من الضابط المُحَقِّقِ الذيْ أُحْرِجَ ، وَلَمْ يُحِرْ جَوَابَاً ، إِلا أَنْ رَمَى عَلَيْهِ جَوَازَ سَفَرِهِ المُحْتَجَزِ لَدَيْهِ وَقَال : خُذْ جَوَازَكَ ، وَاذْهَبْ مِنْ وَجْهِي … فَتَنَاوَلَهُ وَخَرَج . وفي مرة أخرى عند قدومه في إحدى إجازاته من الخليج إلى مطار عمان ، حصل أن تم حجز جواز سفره ، وطلبه للمراجعة لدى الجهات الأمنية ، وهناك بادره المحقق بالاتهام والتشكيك بوطنيته وانتمائه الأردني ، فما كان من هشام بعد أن استُفِزَّ إلا أن ردَّ عليه قائلاً : أنا لا أعرف ما اسمك ، ولا أصلك وانتماؤك ، أو من تكون ، فأنت تتحدث عن الانتماء بحكم وظيفتك ، ومن أجل الراتب الذي تتقاضاه ، أما انتمائي فهو مسجل ومثبت في كُوشَانِ الأَراضِي الذي وَرِثْتُهُ أَباً عَنْ جَدٍّ ، أَمَّا عَنْ مَوْقِفِيْ فَأَعْتَزُّ وَأَفْتَخِرُ بِهِ لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُّ وَيُحَقِّقُ الوَطَنِيَّةَ وَالانْتِمَاء .

المنهج والمبادئ

 ظل هشام يصاحب موقف ثابت لا يحيد عنه ولا يزيغ . فقد كان دوماً في صف المظلوم في وجه الظالم ، ومع الحق ولو كان على نفسه ..

تشرب هذا النهج وتعلمه من والده … ففي يوم كان يجلس مع والده يتحادثان بجو حميمي خاص ، فبادره الوالد بسؤال فقال : أنت تعلم أن لكل شيء وحدة قياس ، فالوزن يقاس بالكيلوغرام ، والطول وحدة قياسه المتر والحجم يحسب باللتر ، وهكذا .. لكن ما هي وحدة قياس السعادة ؟ فبم تقاس السعادة وكيف تحدد مقدارها ؟

استغرب هشام من السؤال وقال لوالده : السعادة أمر معنوي ووحدة القياس تخص الأمور المادية . أجابه الوالد : المعنوي والمادي يحتاج إلى تقدير ومقدار ، وسأدلك على ذلك … فالسعادة يا بني يمكنك قياسها حين تعرف كم أسعدت من الناس ، فذلك هو حجمها ومقدارها !

اختط هشام ذلك المبدأ واختاره طريقاً ونبراساً يحدد على أساسه وبمقاسه مسار حياته وعلاقاته .. فلم يساوم يوماً على أمر صَغُرَ أَوْ كَبُر .. ولَمْ يَتَراجَعَ عَنْ مَوْقِفٍ أَوْ يَحِيْدَ عَنْ حَقٍّ مَهما كان الثَمَنُ والضُغُوطاتُ ، وَمَهْمَا بَلَغَتْ التَضْحِيَاتُ … حِينَمَا كانَ يَتَعَرَّضُ لِبَعْضِ المُسَاوَمَاتِ أَوْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ بَعْضُ الإِغْرَاءاتِ ، كانَ يَقول : كل واحد يضع لنفسه سعراً يساوي في المقدار الثمن الذي يقبضه والمصلحة التي ينشدها ثمناً لمساومته ، وأنا لا سعر لي ولا ثمن ، وبذلك كان ينتهي الموقف ويحسم النقاش .

لم يكن يوماً باحثاً عن منصب أم متصديا لمقعد أو مقام مما يسعى له الآخرون .. لم

ظل عفيفاً في علاقاته زاهداً في احتياجاته قوياً في مواقفه صلباً في تحدياته واضحاً في تصرفاته مشرقاً بهياً مبتسماً ، نابضاً بالحيوية وراغباً في الحياة حتى آخر لحظة . حتى حينما فارقت روحه الجسد ، وكان موعد الوداع والفراق ، تردد شقيقه المتخم بحب مخفي من ذلك النوع الذي ورثه وأخوته من أمهم وأبيهم وأورثوه ، ذلك الحب الصامت الكامن المتخم في كل خَلِيَّةٍ . والذي لَمْ يَكُنْ ليُشْعِرَ بِهِ أَوْ لِيُطْلِعَ عَليهِ أحداً ، فلم يكن يرغب بتخزين صورة لوجه قد فارق صاحبه الحياة إلقاء النظرة الأخيرة ، حتى تظل الصورة المشرقة هي الغالبة والباقية له في ذهنه بعد وفاة الأخ الحبيب ، إلا أنه لم يستطع ، فاقترب من الجسد المسجى ، وإذا بوجهه السمح المنير والابتسامة التي عهدها لا تفارق محياه ، فصاحبته في ارتقائه الأخير ..

دامت ذكراك عطرة .. ولك الرحمة والمغفرة .. بصحبة الأحبة في جنة الرضوان بإذن الله .

*   *   *

المهندس صفوان غرايبة – دبي

رسومات الدكتور هاشم مصطفى الغرايبة
موقع ضريح المرحوم

2 Responses

  1. رحم الله أبا داوود وأسكنه فسيح جناته وبارك في ذريته، وألهمكم الصبر والسلوان.

    إنا لله وإنا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.