مرت سنة
مرت سنة على فراقك يا والدي وأنا أمنع حالي من الكتابة، مرت سنة كأنها دقائق، مرت سنة وذكراك معي، مرت سنة وأنا أفتقد كل كلمة سمعتها منك، مرت سنة وأنا اصارع الذكريات، مرت سنة …..
الموت هو عكس الحياة، الموت هو الصمت وهو الجمود، مش عارف أعبر عن احساسي وعن شعوري، الموت صعب لكن هو النهاية الدنيوية بكل معانيها. سواء كنت مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي أو حتى ملحد أو علماني، واقع الموت واحد. الدين يعزينا بأن الروح تصعد وتحيي من جديد، فمن عمل خيرا دخل الجنة ومن عمل شرا دخل النار، ومن لا دين له فالموت هو النهاية المطلقة المحتومة.
كنت دائما أخاف من الموت أو من موت شخص عزيز على، بس اكتشفت أن الموت حق، وكلنا رح نموت يوما من الأيام، سواء عشنا 20 أو 100 سنة رح نموت. فأصبحت اليوم لا أخاف من الموت، فعليا لا أخاف، شخصيتي اختلفت، وتقبلي للفكرة اختلفت، بطلت خائف زي الأول، وصرت أقدر حياتي أكثر من الأول.
اكتشفت بأنني محظوظ كثير، لأنه أبوي رباني صح، لأنه أبوي صقل شخصيتي لأكون انسان يحترم حاله ويحترم الآخرين. فأنا اليوم مرآة والدي، أنا أكمل والدي وغياب والدي.
اكتشفت بأنني محظوظ لأنه أعطاني الأدوات الازمة لأعيش بكرامة وعز، علمني أن أعتمد على حالي وأن أهتم بعائلتي وأصدقائي، خلاني شخص عصامي، علمني التعاطف وعدم الازدراء، علمني أسمع أكثر من أن أتكلم، أن أسعد الآخرين أكثر من أن أسعى لإسعاد نفسي لان سعادتي تأتي من تأثيري بإسعاد الآخرين.
أعطاني الحرية والثقة لأفعل ما يمليه على عقلي وضميري، أن أرى الصح وأفهم الغلط. خلاني أرسم طريقي بالحياة من غير أية ضغوط، كان يوجهني بدون ما أحس، بس دائما يتأكد أنى أمشي على الطريق الصحيح.
الأب هو صمام الأمان للعائلة، هو الوحيد الي بعطي من غير حساب أو اعتبارات، هو المرجع والمنارة، حبه لامحدود، ومعاناته صامتة من غير أي صوت، ألمه لنفسه، وفرحته للآخرين.
والدي توفى وهو واقف وشامخ، رأسه مرفوع لآخر دقيقة من عمره، لم ينحني رغم خذلان جسده النحيل، توفى مكابرا وليس متكبرا. رغم شدة المرض والوهم بقي يقاوم، يحدثنا صوت وصورة رغم المسافات وهو بأبهى صورة، حالق اللحية ومستقيم الجلسة رغم صعوبة هذه الأفعال البسيطة عليه. والدي توفى قبل يوم من حضورنا من السفر لأنه لم يرغب أن نراه ضعيفا واهنا، توفى مع أن حالته الصحية الجسدية تحسنت، توفى لتبقى ذكراه في مخيلتنا بأبهى وأحلا صورة
يكفيني فخرا أن كل ما تذكره أحد أثنى عليه وترحم عليه من قلبه، يكفيني فخرا معزته ومكانته في قلوب المئات من الناس الي عرفهم برحلته في هذه الحياة
توفى والدي وهو أكمل دوره على أحسن وجه، توفى وهو متطمئن على من ترك خلفه، توفى وليس عليه دينار واحد دين لأحد، ولم يأخذ رشوة من أحد، توفى في بيته معززا مكرما من غير ألم أو معاناة طويلة مع المرض ودفن في الأرض التي أحبها ولم يتخلى عنها يوما من الأيام
فراقه ترك فراغا كبيرا في قلوبنا جميعا، لكن هذا الفراغ ليس بمعتم وبارد، انما فراغ مشمس وفسيح، فراغ كله أمل وتفاؤل لنكمل حياتنا بأحسن طريقة، غيابه مر لكن ليس بعلقم، مر لكن ليس ليسمم تفكيرنا ويعطلنا من الاستمرار
الدروس الي تعلمتها منه كثيرة وكثيرة جدا، كل ما أتذكر موقف استوعب بعد كل هذه السنين ليش صار وما هي الحكمة من ورائه وسأبقى ممنونا لما علمني طوال عمري الباقي
وتستمر الحكاية…..
داود هشام مصطفى غرايبة – أبوظبي